
يسعى قطاع صناعة السيارات منذ ابتكار السيارات التجارية إلى تطوير مركبات آمنة أكثر وصديقة للبيئة وذات تكلفة معقولة ولكنّ التقدم التكنولوجي كان أكثر سرعة. شهدت هذه الصناعة في السنوات الأخيرة تغييرًا كبيرًا مع ظهور التكنولوجيا ذاتية القيادة. وكانت شركات صناعة السيارات الكبرى تستثمر بكثافة في أعمال البحث والتطوير وتتوقّع أنّه في غضون 5-10 سنوات، سنشهد المركبات ذاتية القيادة تجوب الشوارع في كلّ من النقل الشخصي والعام. وتجدر الإشارة إلى أنّ الدعم الحكومي ضروريّ لتحقيق ذلك. وكانت دبي إحدى أكثر الدول الداعمة مع إطلاق استراتيجية دبي للتنقل ذاتي القيادة لقطاع النقل الذاتي المستقبلي. يهدف هذا المشروع إلى تحويل 25٪ من وسائل النقل في دبي إلى مركبات ذاتية القيادة بحلول العام 2030، وزيادة الإنتاجية عن طريق تقليل وقت الرحلة والحدّ من حوادث الطرق بشكلٍ كبير. وهذا هو نوع الدعم الذي يحفّز شركات صناعة السيارات للاستثمار في تكنولوجيا السيارات ذاتية القيادة.
عودة إلى الماضي
تضمّ تكنولوجيا السيارات اليوم أجزاء من تاريخ التكنولوجيا في كلّ جانب من جوانبها، بما في ذلك أحدث الابتكارات في مجال السيارات ذاتية القيادة.
ساهم العديد من الأفراد منذ العام 1900 في تقدّم التكنولوجيا الذاتية. وفي العام 1945، ضاق رالف تيور، ذرعًا بقيادة سائقه، فاخترع "جهاز التحكّم بالسرعة" المعروف اليوم بنظام تثبيت السرعة.
ثمّ في العام 1960، بدأ جيمس آدمز، وهو طالب دراسات عليا في الهندسة في جامعة ستانفورد بتطوير أول سيارة ذاتية القيادة في العالم والمعروفة باسم "ذا كارت" (The Cart). وقد تمّ تجهيز هذه السيارة بكاميرات وبرمجتها للكشف عن الخط الأبيض على الأرض واتّباعه بشكلٍ ذاتيّ. ولا تزال الكاميرات اليوم عنصرًا مهمًّا في تكنولوجيا السيارات ذاتية القيادة.
كما قام المهندس الألماني إرنست ديكمانس بابتكار تقنية جديدة في مجال التكنولوجيا الذاتية ظهرت نتيجة لرؤيته الدينامية. وهي عبارة عن نظام تصوير قادر على ترشيح "الضوضاء" الخارجية، ما يسمح بالتركيز على الأجسام المحيطة بالسيارة. وكان هذا النوع من التصوير حاسمًا في مساعدة المركبات ذاتية القيادة لتحديد المخاطر الخارجية المحتملة.
أمّا المساهم الآخر للتكنولوجيا الذاتية هي الطائرة بدون طيار لشركة "جينيرال أتوميكس" (General Atomics)، والعاملة بطريقة ذاتية القيادة لأكثر من 20 عام. ويتمّ تجهيز معظم الطائرات بدون طيار بتقنيات مختلفة يتمّ إدخالها على السيارات اليوم. وتشمل الرادارات وكاميرات التصوير الحراري التي تمكّن التنقّل ليلاً. وقد كانت تقنيات الطائرات بدون طيار أسس تطوير تكنولوجيا السيارات ذاتية القيادة اليوم.
ما الذي لا نعرفه؟
كيف تعمل إذًا السيارات ذاتية القيادة؟ تتّبع نهج "الشعور-التخطيط-العمل". وتكون مجموعة من أجهزة الاستشعار والكاميرات والرادارات مسؤولة عن توجيه السيارة وجمع البيانات من البيئة المحيطة بها. ثمّ، يتمّ تفسير هذه البيانات عن طريق خوارزميات البرامج المخزّنة على الحاسوب الرئيسي في السيارة. وأخيرًا، يتمّ تحويل البيانات إلى أوامر لقيادة السيارة والدوس على الوقود والمكابح. وفي ما يلي شرح موجز لنظام القيادة الذاتية في السيارة:
تشمل أنظمة القيادة الذاتية ما هو أكثر من مجرّد ما تراه العين؛ إذ تعتمد بشكلٍ كبير على الذكاء الاصطناعي والتعلّم الآليّ لاتّخاذ قرارات صائبة وتمييز البيئات المحيطة بها. وتقوم خوارزميات التعلّم الآليّ المستخدَمة على تتبّع الجسم ويتمّ تصميم خوارزميات التعرّف على الأنماط المتطورة لتحسين دقة التمييز بين الأجسام، مثلاً، إذا كان الهدف مركبة أخرى أو مشاة أو دراجات أو حتّى حيوان. وتقوم أنظمة القيادة الذاتية بتحليل البيئة والصور الصادرة إلى خوارزميات بشكلٍ مستمرّ. ثمّ، يتمّ فحص الصور وتصنيف طبيعة الأجسام. وتسمح هذه الخوارزميات للمركبة بتعلّم خصائص الجسم مثل الحركة والحجم والشكل من أجل تصنيف الصور بدقة أعلى في المستقبل.
إنّ هذه التكنولوجيا هي ما يصنّف قدرات السيارة على القيادة الذاتية. وثمّة خمسة مستويات مختلفة من أنظمة القيادة الذاتية. وفي ما يلي وصف موجز لكلّ منها:
المستوى 0: لا تكون القيادة الذاتية موجودة بشكلٍ أساسيّ، حيث يتحكّم السائق تمامًا بالمقود والمكابح ودواسة الوقود.
المستوى 1: يتضمّن هذا المستوى تكنولوجيا مساعدة السائق الذي يستمرّ بالتحكّم بمعظم الوظائف. ويمكن أن يشمل هذا المستوى ميزات نظام تثبيت السرعة الأساسية.
المستوى 2: ثمّة نظام واحد على الأقلّ لمساعدة السائق يكون آليًّا بشكلٍ كامل. وعادةً ما تكون ميزات مثل نظام تثبيت السرعة الأساسية المتقدّم وتكنولوجيا التمركز في وسط المسار موجودة وتسمح للسائق بالاستغناء بالكامل عن العمل البدني لقيادة السيارة. ومع ذلك، يجب أن يكون دائمًا على استعداد للتدّخل إذا لزم الأمر.
المستوى 3: يبقى دور السائق ضروريّ في السيارة ذات المستوى 3، ولكن يمكنه تحويل "وظائف السلامة الحرجة" بشكلٍ كامل إلى السيارة في ظروف حركة سير وظروف بيئية معيّنة. وهذا يعني أنّ السائق لا يزال موجودًا ولكنّ من غير الضروريّ أن يراقب الوضع في الطريقة نفسها التي تعمل في المستويات السابقة. وتقدّم سيارات تيسلا حاليًّا المستوى 3 من القيادة الذاتيّة، حيث تكون السيارة قادرة على مراقبة السرعة وتوجيه المقود وتغيير المسار وتركيزه في الوسط بالكامل بشكلٍ ذاتيّ.
المستوى 4: يمثّل هذا المستوى القيادة الذاتية بالكامل حيث قد لا يتعيّن على السائق التدخّل أبدًا. وتكون سيّارات المستوى 4 مصمّمة لأداء جميع "وظائف السلامة الحرجة" ومراقبة ظروف الطريق للقيادة بحذر من نقطة الانطلاق إلى نقطة الوصول. ومع ذلك، يمكن لهذا المستوى من القيادة الذاتية ألا يغطي كلّ سيناريوهات القيادة.
المستوى 5: يشير هذا المستوى إلى النظام المستقل تمامًا حيث يكون أداء السيارة مساويًا لأداء السائق الذي يمكنه ألا يكون متواجدًا لأنّ تدخّله غير مطلوب على الإطلاق. ويدعم المستوى 5 من القيادة الذاتية كلّ سيناريوهات القيادة الممكنة، بما في ذلك البيئات القاسية والطرق الوعرة.
السباق حتّى النهاية
بلغت المنافسة ذروتها بين شركات صناعة السيارات مع اقتراب تقديم أول سيارة ذاتية القيادة بشكلٍ كامل. أطلقت شركة تسلا، الأولى في دخول هذا المجال، الطيار الآلي من تسلا (تقنيتها الذاتية الأولى) على طراز تسلا S في العام 2014. وقد جذبت إنجازاتها حتّى الآن الكثير من المنافسة من شركات السيارات والشركات غير العاملة بهذا المجال على حدّ سواء. وعرضت كلّ الشركات المنافسة الرئيسية مثل أودي، بي ام دبليو ومرسيدس سياراتها الرائدة التي تتمتع بقيادة ذاتيّة وحصدت نجاحًا كبيرًا.
"أجرت الفئة E الجديدة كليًّا بنجاح أول قيادة ذاتيّة للغاية في منطقة الشرق الأوسط على الطريق السريع E11 من دبي إلى أبو ظبي بتاريخ 4 نوفمبر 2016"
لينارت مولر-توت، رئيس التسويق والاتصالات لمرسيدس-بنز الشرق الأوسط
والجدير بالذكر أنّ شركات صناعة السيارات تملك رؤى مختلفة تتعلّق بالسيارات ذاتيّة القيادة. على سبيل المثال، استثمرت فورد رؤوس أموال ضخمة في البحوث والتطوير في مجال القيادة الذاتية. ولكنّ الشركة تركّز على خدمات مشاركة الرحلات وأعلنت مؤخرًا عن نيتها في تقديم عدد كبير من سيارات المستوى 4 ذاتيّة القيادة بحلول العام 2021. وتشمل الشركات الأخرى غير العاملة بهذا المجال والمشاركة في السباق أبل وجوجل وإنتل التي تركّز من ناحية أخرى، على تطوير أنظمة القيادة الذاتية المتقدّمة، من خلال الشراكة مع شركات صناعة السيارات لتطوير سياراتها.
الآثار
تمثل السيارات ذاتية القيادة ثورة كبيرة في مجال ابتكار السيارات، ولكنّ آثارها المحتملة على المجتمع لا تزال غامضة. وفي ما يلي بعض الآثار التي يمكن أن تترتّب منها على الاقتصاد والتنقل والمجتمع ككلّ.
قد تحتاج شركات تأمين السيارات إلى تغيير نموذج أعمالها
قدّمت شركات تأمين السيارات لفترة طويلة تغطية للعملاء في حال وقوع حوادث على الطرق ناجمة عن الأخطاء البشرية. ومع ظهور السيارات ذاتية القيادة، سيتعيّن على هذه الشركات تغيير جوهر أعمالها والتركيز على تأمين شركات صناعة السيارات من الموجبات الناجمة عن الأعطال الفنية، ما يفتح المجال أمام نموذج عمل جديد كليًّا مع أنّه قد يؤدّي إلى مشكلة لشركات التأمين.
إعادة تشكيل سلاسل التوريد
إنّ الأثر الإيجابي لتقنيات السيارات ذاتية القيادة هو تحقيق الاستخدام الأمثل لسلاسل التوريد والعمليات اللوجستية في جميع أنحاء العالم. ومع تطبيق الأتمتة في الشركات، ستزداد الكفاءة والمرونة والإنتاجية في حين تنخفض تكلفة العمالة الإجمالية.
انخفاض معدلات حوادث الطرق
ستقوم المزيد من أعمال البحث والتطوير بتقليل حوادث السيّارات العاملة بالمحرّكات بشكلٍ كبير إلى جانب احتياطات السلامة التي تطبّقها تكنولوجيا السيارات ذاتية القيادة اليوم. ومع توافر تقنيات متقدّمة أكثر للسيارات ذاتية القيادة، يؤدّي التدخّل الأقلّ للسائق إلى أخطاء بشرية أقلّ وعدد أقلّ من انتهاكات القوانين، ما يخفّض في نهاية المطاف حوادث الطرق.
الاستنتاج
مع أنّ فكرة السيارات بدون سائق قد تبدو خياليّة، تستمرّ تكنولوجيا العربات ذاتيّة القيادة بالتطوّر بشكلٍ مستمرّ ويأمل صناع السيارات بجعل السيارات بدون سائق في متناول الجمهور في أقرب وقت من العام 2020. وقد تبدو الآن فكرة الجلوس والاسترخاء أثناء التنقل بشكلٍ يوميّ أمرًا رائعًا ولكنّ ليس مثاليًّا، تمامًا مثل أيّ شيء في هذا العالم. وفي ما يلي عدد قليل من القضايا الناشئة الأكثر شيوعًا التي لم يتمّ حلّها بعد في مجال السيارات ذاتية القيادة:
1. المعاناة في الظروف الجوية السيئة: في خلال الثلوج أو الأمطار الغزيرة، يصعب على أجهزة الاستشعار والكاميرات رؤية علامات المسارات وغيرها من الأجسام التي تساعدها في القيادة بأمان.
2. المعاناة على الطرق حيث علامات المسارات غير واضحة: تُعتبر علامات المسارات الأساس لتوجيه السيارات بدون سائق. وعندما لا يمكن تمييزها، يصبح من المستحيل تقريبًا على السيارات ذاتية القيادة العمل أو تغيير المسارات بأمان.
3. التنقل في المدينة: تضمّ المدن المشاة والسيارات والحفر والأقماع المرورية وفوضى كاملة من المتغيرات الأخرى. وقد تشكّل كلّ هذه العقبات صعوبة على السيارات للحفاظ على مسارها والقيادة بأمان.
4. أنظمة البلد: مع ظهور السيارات ذاتية القيادة، لا بدّ من تطبيق أحكام جديدة. ومع ذلك، ستشكّل الأحكام المتعارضة في جميع أنحاء العالم معضلة لأنّه قد يكون لكلّ دولة قوانينها وأنظمتها المختلفة، ما يجعل من الصعب على الشركات المصنّعة التوافق معها كلّها.